بسم الله الرحمن الرحيم.. منهج ووصية لاتفوتوا صلاة الفجر والعصر.. عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال:
(إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة). رواه البخاري
هذا الأثر النبوي من خمسة مقاطع:
الأول: قاعدة. قوله: (إن الدين يسر).
الثاني: منهج. قوله: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
الثالث: وصية. قوله: (فسددوا وقاربوا).
الرابع: بشارة. قوله: (وأبشروا).
الخامس: وصية أخرى. قوله: (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
فأما القاعدة: (الدين يسر). فمعناه:
سهل في متناول استطاعة جميع الناس بلا استثناء، فلكل إنسان امتثال للدين يلائم قدرته وحدود استطاعته، فذو القوة والعزيمة يأخذ منه على قدر قوته وعزيمته، والضعيف يأخذ منه بقدر ضعفه.
تبتدئ فرائض الدين من الصلوات الخمس وصيام رمضان ونحوها من الواجبات اللازمة، ثم تزيد على ذلك بالنوافل، حتى يصلي ما شاء من سنن ويقوم الليل، ويصوم يوما ويفطر يوما.
وبين هذه النهاية وتلك البداية درجات بحسب الطاقة والهمة. فالدين كسلعة معروضة، فيها الثمين والأثمن وثمين الأثمن، وللإنسان الخيار أن يقتني ما شاء.
فهذا نوع من اليسر، لا يلزم الناس فيه أن يكونوا في أعلى المقامات، بل ما يقدرون عليه، بعد أن يأخذوا بحده الأدنى.
ونوع آخر، أن هذا الحد الأدنى فيه اليسر أيضا، فإنه يخفف عن العاجز، أن يصلي قاعدا، إن لم يستطع قائما، وعلى جنبه إن لم يستطع قاعدا. وإن عجز عن الصوم، أفطر وقضى، فإن عجز مطلقا، أطعم ولم يقض.
والذي لا يملك نصابا فليس عليه زكاة، ومن لا يملك مالا يصل به إلى الحج، فلا حج عليه، فأركان الإسلام تخف لتيسر على أصحاب الأعذار، فما دونها من الواجبات من باب أولى.
فالدين يسر، إلا أن هذا لا يعني أنه مغلوب، في قدرة الإنسان أن يتعالى على مقاماته، ويفي بكافة متطلباته وواجباته. كلا، وهذا ما نبينه في المنهج.
فالمنهج: أنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه. فقد يغتر أحد بما يرى في الدين من يسر، فيظن أن بمقدوره أن يتجاوزه ليصل إلى أعلى درجاته..؟!!.
هيهات، فإن في كثرة طرقه وتنوع فرائضه ما يعجز أصحاب الاصطفاء من أنبياء، دع عنك من دونهم، فليس أحد يقدر على أداء حق الله تعالى عليه، فحقه عظيم.
فالصلوات لا حد لها في اليوم عددا، ومهما صلى المصلي، فيبقى أجره على قدر خشوعه، والخشوع أشق ما يكون في صلاة واحدة، فكيف بركعات متوالية، وأحسن الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ومن يستطيع هذا.
فإن استطاع في شبابه، عجز عنه في كبره، كما عرض لعبد الله بن عمرو بن العاص، نصحه النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف فأراد العزيمة، فأخذ من العبادات ما ضعف عنها في كبره، وتمنى لو أخذ بالرخصة.
ولو أخذنا بفريضة أخرى، النصيحة مثلا، فإنها تبدأ من الكلمة الطيبة للجار والصديق والأهل، حتى تنتهي عند كلمة حق عند سلطان جائر، يتعرض بها للأذى وربما الموت.
وهكذا فرائض الدين، في كل فريضة مراتب يسيرة هي ابتداؤها، ثم تتمادى لتصل مراتب كالجبال، فمن استهان بالدين كونه يسرا، فإنه ينظر إلى مقدماته وبدياته، لكن لو مد نظره إلى نهايات الفرائض أدرك عجزه عن الوفاء.
فالدين كالبحر تمشي فيه المراكب كلها صغيرها وكبيرها، فإن هاج وماج بلع كل شيء، والواقف على شطه يراه ملكه، فإن نزل فيه أدرك أنه مملوكه.
وفق هذه الحقيقة، فإن المنهج: التسليم لعظمة الدين مع يسره، وترك التنطع بالظن أن في القدرة الوصول إلى أعلى درجاته، أو أن أوامر الدين غير كافية، فيحتاج إلى أن نزيد فيه، كالذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فتقالّوها، فأحدهم قال: أقوم ولا أرقد، وقال الثاني: أصوم ولا أفطر.
وقال الثالث: لا أتزوج النساء. فقال عليه الصلاة والسلام: (أما أنا فأقوم وأرقد، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فمن لم يفهم هذه الحقيقة، حمل على نفسه ما لا تطيق، فيترك الطاعة ضعفا ومللا، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى). الزهد لابن المبارك.
والمنبت هو الذي أعطب مركوبه من شدة السير، فصار منقطعا.
ثم جاءت الوصية الأولى: سددوا وقاربوا. وهو أن ما أمر الله به، فالمطلوب أن يؤتى به على أحد وجهين:
إما السداد وهو الإصابة التامة، بفعل ما أمر به كما أمر، كالمصيب عين الهدف.
فإن عجز، فمقبول منه أن يقارب، ولا يلزمه إصابة عين الهدف.
وهذا من اليسر أيضا، لعلمه تعالى بخلقه، وما جبلوا عليه من الضعف والعجز، سامحهم في الإصابة وقبل منهم مقاربة ما أمروا به؛ ولذا لم يبطل صلاة المشغول بالدنيا.
بل كتب له من الأجر حتى العشر، ولا حج من رفث وفسق وجادل، ولا صيام العاصي، ولا صدقة البخيل، وهذا فيه توسعة، أن من لم يقدر على الإحسان.
فله مراتب دون ذلك، كلها مقبولة، والمجاهد له أجره: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
بعد ذلك البشارة: وأبشروا. فمن أخذ بالدين باليسر والرفق والقصد، دون أن يحمل النفس ما لا تطيق، وسعى في السداد إن استطاع، أو المقاربة إن عجز، فله البشارة من الله تعالى، بحصوله على الثواب والأجر.
وكأن الرب سبحانه يقول لعباده: افعلوا قدر ما تطيقون من الأوامر، واجتنبوا قدر ما تستطيعون من النواهي: {فاتقوا الله ما استطعتم}.
ثم أبشروا، فإن الله كريم جواد رحيم، لا يضيع أجر المحسن، ولا أجر المجاهد الذي يلقى عنتا ومشقة في الامتثال.
ثم الوصية الأخيرة: واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة.
الغدوة أول النهار، من طلوع الفجر حتى طلوع الشمس، والروحة من بعد صلاة العصر حتى الغروب، والدلجة الثلث الآخر من الليل.
والوصية أن يستعان بهذه الأوقات على شحن الإيمان، ويفهم منها:
أنها أوقات جعلت فيها خاصية تميزها عن غيرها؛ أنها تتنزل فيها من أنوار الإيمان أكثر مما في غيرها من الأوقات، فمن استعد لها اقتبس منها ونال بقدر ما استعد.
هذه الأوقات الثلاثة نص في القرآن في عدة مواضع:
في سورة طه، قال تعالى: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها * ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى}.
وفي سورة ق~، قال تعالى: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب * ومن اليل فسبحه وأدبار السجود}.
وفي الطور، قال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم * ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم}.
وفي الإنسان، قال: {فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا * واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا * ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا}.
في الآيات عامل مشترك، فكلها تبتدئ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله المشركون في حقه، من كلام فيه أذى.
ثم توصيه باغتنام هذه الأوقات الثلاثة، مما يبين أنها محطات للتزود من شحنات الإيمان، وإزالة أعباء الحياة وما يعرض له من كرب وهموم وغموم وآلام.
وبالنظر إلى ما جاء في فضائلها فهي حرية بهذه المزية.
فالدلجة آخر الليل، وقت تنزل الرب سبحانه، كما في الأثر: (ينزل ربنا في الثلث الآخر من الليل، فيقول: من يستغفرني فأغفر له، من يدعوني، فأستجيب له).
وأعظم أوقات تنزل الإيمان والرحمة، هو شدة قرب الرب من عباده، فالمستعد فيها بالحضور والذكر والصلاة والدعاء، يشحن في إيمانه طاقة عظيمة.
ثم الغدوة وفيها صلاة الفجر المشهودة من ملائكة الليل والنهار، وصلاتها من أسباب دخول الجنة: (من صلى البردين دخل الجنة). وفيها ركعتا الفجر، خير من الدنيا وما فيها.
ثم الروحة وفيها صلاة العصر، وهي الصلاة الوسطى، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (من فاتته صلاة العصر، حبط عمله).
وفي هذين الوقتين أذكار الصباح والمساء، ومن العجيب أن الشيطان أحرص ما يكون على صرف الناس عنها.
فهو يشغلهم قبلها بالسهر بما لا يفيد أو يضر، ثم يضرب عليهم النوم، فلا تجدهم فيها إلا نائمين، لا يعرفون قيام ليل.
ولا يصلون الفجر والعصر في جماعة؛ لذا تراهم يشكون ضعف إيمانهم، وكثرة كربهم، وليس لهم إلا ذاك، فقد فوتوا أوقات الإيمان.
الكاتب: د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجة
المصدر: شبكة ملتقى الخطباء